في ظلال طوفان الأقصى “115”
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
آثر نتنياهو الذي لاذ بالصمت طويلاً أمام وسائل الإعلام العامة الإسرائيلية والدولية، وامتنع لفترةٍ عن عقد مؤتمراتٍ صحفيةٍ، يقف فيها أمام الإعلاميين ورجال الصحافة، ويتعرض لأسئلتهم المحرجة والاستفزازية أحياناً، التي يبدو بعضها استجواباً واستنطاقاً له، مما قد يسبب له مشاكل جديدة وكبيرة مع أطراف ائتلافه أو مع خصومه السياسيين، ومع عائلات الجنود الأسرى والمتضامنين معهم، ومع الإدارة الأمريكية والحلفاء الدوليين والوسطاء الإقليميين.
لهذا كان قراره اللافت بالانصراف عن عقد المؤتمرات الصحفية، رغم ألمعيته فيها وتفوقه، والاكتفاء ببعض التصريحات المباشرة والمقتضبة خلال جولاته وزياراته لمواقع العمليات العسكرية شمالاً وجنوباً، أو بأخرى ينسبها الإعلام إلى مصدرٍ مسؤول، يعلم الجميع أنه نتنياهو شخصياً، الذي اعتاد لعبة التصريحات المجهولة المصدر، ووجد أنها تفيده ولا تقيده، وتخدمه ولا تحرجه، والتي يصدرها أحياناً بالونات اختبار، أو لتسليط الضوء على بعض مواقفه، وتحريك الرأي العام معها لصالحه.
إلا أنه قرر في أيامٍ ثلاثة أن يعقد منفرداً مؤتمرين صحفيين، لا يشاركه فيهما أحد، ولا ينافسه في الحديث غيره من المشاكسين الذين اعتاد على الظهور معهم، حيث كانت كاميرات الإعلاميين تلتقط تعابير وجوههم، وترصد حالة العبوس والغضب، وعلامات عدم الرضا عن بعضهم البادية على وجوههم، وتقرأ حجم الاختلاف والتناقض بينهم، بل وتحسب درجة الكره لبعضهم، مما دفعه أو دفعهم للعزوف عن مشاركتهم في مؤتمراته الصحفية، والاكتفاء بالبدائل الأخرى التي بات يفضلها ويجد حريته فيها.
بدا نتنياهو في مؤتمريه، كما عبر العديد من الإسرائيليين الذين تابعوه وعلقوا عليه، أنه كان محاضراً قد أعد محاضرته جيداً واستعد لها، وهيأ لها وسائل إيضاحٍ تناسبه، ومؤثراتٍ ضوئية وبصريه تساعده، وبدا بحركاته ومؤشره كأنه يحاول إقناع المستمعين له ودفع المشاهدين للقبول بأفكاره، وتصديق كلامه، وتأييد سياساته، وعدم الانجرار وراء المعارضين له والمخالفين لسياسته، متهماً إياهم بالخوف والجبن والقبول بالهزيمة أمام السنوار، ولكنه لن يصغي إليهم، وسيواصل خطته العسكرية حتى إنجاز الأهداف الأربعة التي وضعها.
اتهمه بعض الإسرائيليين أنه كان في مؤتمريه كبائعٍ محترفٍ يعرض بضاعته ويزينها للراغبين، وقد أتقن صنعته وحاول إقناعهم بها، لكنه كان يعرض بضاعةً لا يرغب بها الزبائن، ولا يقتنعون بجودتها، ويرون أنها بضاعة مرتجعة وقد سبق عرضها ولم يقبل بها ويرضى عنها أحدٌ، إذ كانوا يتوقعون غيرها، ويريدون ما هو أفضل منها، إذ أن ظروفهم لا تناسبها بضاعته الكاسدة التي لا يعجب بها ولا يستحسنها سواه.
وذكر بعضهم أن ذاكرته مثقوبة ومعطوبة كما قلبه الذي عرج على بيان حالته، حيث بدا من المعلومات التي أوردها، والمبررات التي سوغها، أن شيئاً قد أصاب ذاكرته فأضعفها، أو أن الأحداث الكبرى التي يشهدها قد أتلفت سمعه، وربما كبر السن، أو طول ساعات العمل والإرهاق الذي تبدو آثاره واضحةً تحت عينيه، أو ربما أهوال الحرب ومفاجئات الفلسطينيين ضد جيشه، والتي كان آخرها مقتل الأسرى الستة الذين أوجعوه وأضعفوه، وألبوا الشارع ضده، وحركوا “الهستدروت” وعموم المستوطنين في مظاهراتٍ عارمةٍ جابت مختلف المدن، واحتشدت في قيسارية أمام بيته، تطالبه بعقد الصفقة أو الاستقالة.
أما غالبية الإسرائيليين فقد اتهموا نتنياهو بالكذب وادعاء النصر الزائف، ووصفوا حديثه عن استعادته لأكثر من مائة وخمسين أسيراً من بين أيدي حماس بالهراء، فهو أكثر من يعلم أنه ما كان يستطيع استعادة عُشرِ “الرهائن” بالقوة العسكرية، وبالعقلية الحالية التي تحكمه وتوجهه، ولولا أن حركة حماس قد وافقت على الصفقة ذات الهدن المؤقتة، ما كان سيستطيع أن يفرج عنهم بقوته العسكرية، بقدر ما كان قادراً وجاهزاً لقتلهم والتخلص من أعبائهم.
ويرى آخرون أن لجوء نتنياهو إلى اللغة الإنجليزية في مؤتمره الصحفي، كان محاولةً منه لستر عيوبه وإخفاء أخطائه، وإظهار مصداقيته التي يعرف الإسرائيليون أنها بلا رصيد، ولعله كان يريد لقطاعٍ كبيرٍ من الإسرائيليين ألا يفهموا تصريحاته أو يتابعوا مؤتمره، ليتسنى له الكذب كيفما يريد، وليسهل عليه تمرير رواياته الخاصة، والتركيز على قناعاته الشخصية، وتسليط الضوء عليها أمام الغرب المتلقي وكأنها حقائق ثابتة.
فيما سلط عددٌ غير قليلٍ من الخبراء والمسؤولين الإسرائيليين، والمفكرين والباحثين والصحافيين وأصحاب الرأي والقلم، على تصريحات نتنياهو ضد مصر، التي تربطها اتفاقية سلام مع إسرائيل، وقد مضى عليها مستقرة أكثر من أربعين عاماً، وما زالت مرشحة للصمود والبقاء ما لم يأت “أحمق” يفسدها، واعتبروا تصريحاته استفزازية سيئة، ومحاولة يائسة لقلب الحقائق وتغيير الوقائع وتحميل فشله الأمني على الآخرين.
يرى هؤلاء أن نتنياهو قد قامر بأكبر رصيد لكيانهم في العالم العربي المحيط بهم، ونسي وهو الذي يدعي احترامه لمصر، وإصراره على الاحتفاظ بعلاقاتٍ دافئة معها، أنه لولا مصر وجهود أجهزتها الأمنية، وتدميرها لمئات الأنفاق التي كانت تمتد بين جانبي الحدود، كان من الممكن أن تكون غزة “طورا بورا” فلسطينية، عصية ومحصنة ومحمية وغنية بالأسلحة والمتفجرات، وكان سيكون من الصعب على جيشه أن يحقق النجاحات التي حققها أو يدعي تحقيقها.
فمصر بالنسبة للاستراتيجيين الإسرائيليين، وكبار ضباط الجيش وهيئة الأركان، وقادة الأجهزة الأمنية المتقاعدين والعاملين، تعتبر أهم بكثير من “حكومة نتنياهو” العابرة والتي تسببت في “طوفان الأقصى”، وواصلت أخطاءها باستمرار الحرب وتأخير الاتفاق، بينما كانت مصر ولا زالت قادرة على حماية الحدود، وضبط أعمال التهريب، ومحاربة الإرهاب، والضغط على حماس والتأثير عليها، وهي دولة مستقرة وثابتة.
كثيرةٌ هي التعليقات الإسرائيلية على مؤتمري نتنياهو، ولعل بعضها ساخرٌ متهكم، وغيرها ناقدٌ معارضٌ، ولكنها جميعاً تتفق أنه أضر بأمنهم، وغامر بحياة أبنائهم، واستفز الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي، وفض الحلف الذي تأسس لأجلهم، وراهن على حربٍ لا تعرف نهايتها، ولا غاية منها سوى مصالحه الشخصية ومنافعه الحزبية.